د. حسين عمر عثمان يكتب: إنهاء الحرب في السودان مشروط بمعالجة واعية لأزمةٍ مركّبة
الإثنين، 01 ديسمبر 2025 10:15 ص
د. حسين عمر
تُعدّ الأزمة السودانية اليوم واحدة من أكثر الأزمات تركيبًا وتشابكًا، فهي ليست صراعًا ثنائيًا بسيطًا يمكن احتواؤه باتفاق مستعجل أو تسوية تُوقَّع في أيّ عاصمة، بل أزمة متعددة المستويات، ممتدة لسنوات، ومتجذّرة في الجغرافيا، ومعقّدة في بنيتها السياسية والاجتماعية، ومتصلة بتوازنات إقليمية ودولية لا يمكن تجاهلها. ولذلك فإن أي محاولة لاختزالها في إطار ضيق، أو التعامل معها بحلول سطحية، لن تفعل سوى إعادة إنتاج دورات الفشل التي خبرها السودان طويلًا، ولن تقود إلى سلام مستدام أو استقرار حقيقي. فالأزمة، بطبيعتها المركّبة، لا تُعالج بالمسكنات ولا بالضغوط الخارجية، بل تحتاج إلى دراسة واعية وهندسة دقيقة تبنى على فهم عميق لجذور النزاع وتاريخ المظالم وتوازنات القوى. وحتى اللحظة، لا تزال المشكلة تفتقر إلى رؤية وطنية ناضجة تُقدم تصورًا شاملًا للحل، كما لم تطرح الحكومة خارطة طريق مقنعة، ولم تُظهر المقترحات الأمريكية المطروحة من مستشار الرئيس الأمريكي عمقًا كافيًا للتعامل مع أزمة بهذا الحجم. وهنا تتعمق مسؤولية القوى السياسية والمجتمعية، وتبرز أهمية أدوار مفقودة كان ينبغي أن تضطلع بها الجامعات ومراكز البحوث والمفكرون السودانيون؛ فمشكلات البلاد أكبر من أن تُترك للسياسيين وحدهم، وهي مسؤولية وطنية وأخلاقية مشتركة تشمل الجميع دون استثناء، إلى جانب دور فاعل للوسطاء . إن الحديث عن “حل سريع” في ظل هذا التشابك المعقّد ليس إلا وهمًا سياسيًا. فالسودان لا يحتاج إلى اتفاق يضاف إلى أرشيف الاتفاقيات ، بل يحتاج إلى مقاربة علمية تعترف بحقائق الواقع، لا كما تقدَّم في المنصّات الإعلامية أو البيانات السياسية. وما لم يُبنَ السلام على قراءة دقيقة وشاملة، فسيظل هشًّا قابلًا للانهيار عند أول اختبار. ويتجلّى التعقيد الداخلي للأزمة في مستويات سياسية وجغرافية واجتماعية متداخلة؛ فعلى المستوى السياسي، المشهد أكثر تركيبًا من ثنائية “الجيش السوداني مقابل قوات الدعم السريع”، إذ تتواجد أطراف أخرى مؤثرة مثل الحركات المسلحة السابقة والحالية، والأحزاب السياسية، والقوى الشبابية، والمكونات الاجتماعية والقبلية. إن إنتاج تسوية ضيقة ثم تقديمها باعتبارها “الحل التاريخي” يعيد إنتاج الازمة ، اذا لم يعبّر عن أصحاب المصلحة الحقيقيين.وعلى المستوى الجغرافي، لا تمثل الأقاليم السودانية دارفور، كردفان، النيل الازق ، الشرق، الشمال، الوسط، مجرد خرائط إدارية، بل مناطق تحمل مخزونًا تاريخيًا ثقيلًا من الوعود غير المُنجزة. فدارفور، على سبيل المثال، ما زالت تحمل ذاكرة إبادة جماعية ونزوحًا واسعًا لم تُعالج آثاره حتى الآن. وأي تسوية تُصاغ مركزيًا في الخرطوم دون مراعاة خصوصيات هذه الأقاليم ومطالب أهلها لن تنتج سلامًا عادلًا أو مستدامًا. فالسلام الحقيقي هو ما ينعكس في حياة الناس أمنًا وخدمات وتنمية وتمثيلًا سياسيًا لا يشعرون معه بأنهم مُستبعَدون.أما اجتماعيًا، فإن السودان فسيفساء واسعة من القبائل والمجموعات الإثنية، وتبرز قضايا الحواكير ومسارات الرعي وملكية الأرض باعتبارها جذورًا مباشرة للصراع في بعض المناطق. وأي تسوية تتجاهل هذه القضايا أو تكتفي بصياغة سياسية فوقية ستعيد إنتاج الأزمة ذاتها. فالسلم الاجتماعي يُبنى من القاعدة، عبر إصلاح العلاقات على الأرض، وتوفير آليات مصالحة موثوقة، وعدالة تضمن عدم الإفلات من العقاب. كما كشفت التجارب السابقة عن مشكلة إضافية؛ إذ تحوّل العديد من المنادين بقضايا “الهامش” إلى متسابقين على المناصب و السلطة، ما أدى إلى شعور المجتمعات المتضررة بأن نضالاتها تحولت إلى وظائف ومكاسب شخصية، الأمر الذي عمّق فجوة الثقة وأضعف شرعية اتفاقيات السلام السابقة. وخارجيًا، يقف السودان وسط شبكة معقدة من المصالح الإقليمية والدولية: تنافس على النفوذ في البحر الأحمر، صراع على الذهب والموارد، وتداخل وتشابك مع صراعات تمتد من ليبيا وتشاد إلى القرن الإفريقي. وقد أسهم تضارب المبادرات وتعدد الوسطاء وتباين مصالح القوى الكبرى في خلق فراغ تنسيقي سمح للحرب بأن تستمر بلا أفق. كما تحوّل الملف الإنساني إلى ورقة ضغط سياسي، وأصبح الإنسان السوداني بدلًا من أن يكون محور الاهتمام مجرد أداة في توازنات إقليمية ودولية لا تراعي واقعه ولا احتياجاته. إن إنهاء الحرب في السودان، رغم صعوبته، ليس مستحيلًا؛ لكنه يتطلب معالجة واعية وجادة لجذور الأزمة، ورؤية سياسية جديدة تتجاوز التفكير التجزيئي، وتوسّع قاعدة المشاركة، وتضبط التدخلات الخارجية ضمن إطار وطني واضح، وتعيد بناء الثقة بين القوى السياسية والاجتماعية، وتستعيد الإرادة الوطنية الجامعة لبناء مشروع يجنب البلاد الانزلاق إلى حروب جديدة. فالسودان لا يحتاج فقط إلى وقف إطلاق النار، بل يحتاج إلى هندسة سلام تقوم على قراءة علمية و واقعية، وفهم عميق، ومعالجة جذرية، ورؤية طويلة المدى تتجاوز الأزمات التي ظلّت تتكرر عبر عقود. وبدون ذلك، فإن أي حل سيبقى مجرد استراحة قصيرة قبل جولة جديدة من الصراع.
نسخ الرابط للمقال
آخبار تهمك
مونيكا روبرت تخطف عقول السودانيين قبل أغنيتها الجديدة بسؤال: "سيدو مين القصر"
28 نوفمبر 2025 03:28 م
"صلاة الفار" .. شيخ مصري يوضح طريقة الصلاة أثناء الجري والفرار من القتل
27 نوفمبر 2025 06:12 م
إلى أطفال الخرطوم.. استعدوا للمتنزهات والحدائق بعد إعادة تأهيلها
27 نوفمبر 2025 04:20 م
كيف تحمي نفسك من الدفتريا والطريقة الصحيحة للتطعيم؟
26 نوفمبر 2025 04:42 م
وزير الثقافة: التخريب الممنهج للمليشيا استهدف آثار السودان وموروثه الحضاري
26 نوفمبر 2025 03:44 م
الأكثر قراءة
-
"أون سودان" يكشف ملامح خارطة الطريق الأمريكية المقترحة للسلام في السودان: جيش وطني موحد ولجنة دولية لوقف الحرب
-
العثور على جثة فتاة داخل خزان مياه .. من قتل حواء آدم بالمناقل؟
-
عاجل .. انشقاق قائد استخبارات ميليشيا الدعم السريع مع 11 ضابطاً وانضمامه للجيش السوداني
-
القبض على "المهدي المنتظر" في كسلا ومواطنون: عقبال "المسيخ الدجال" في دارفور
-
"ماربورغ " فيروس قاتل من إثيوبيا يهدد السودان والصحة ترفع حالة الطوارئ في مطار بورتسودان
أكثر الكلمات انتشاراً