الفساد في زمن الحرب الوجه الآخر للمعركة

الإثنين، 15 ديسمبر 2025 06:12 م

حسين عمر عثمان

حسين عمر عثمان

بقلم/ د. حسين عمر عثمان


الفساد عدوّ داخلي لا يقلّ خطورة عن الرصاص الخارجي، بل يُعدّ في تاريخ الأمم أحد أكثر عوامل الانهيار فتكًا ببنية الدولة، كسلاح الصراعات العسكرية.

فالدولة قد تنهض من حرب، لكنها لا تستطيع استعادة عافيتها تحت بنية فساد تلتهم موارد البلاد، وتحوّل السلطة إلى غنيمة، والوطن إلى ساحة مفتوحة للنهب.

وفي اللحظة الراهنة التي يمرّ بها السودان، حيث تتقاطع المعركة العسكرية مع معركة الوجود الوطني، تصبح مواجهة الفساد ضرورة لا تقلّ إلحاحًا عن صدّ العدوان.

وتزداد خطورة الظاهرة حين تستغل بعض الفئات انشغال القيادة بإدارة الحرب، لتمارس فسادًا يتنامى بالتوازي مع العمليات العسكرية، مما يطيل أمد الصراع ويخصم من رصيد الدولة والمجتمع معًا، بل وقد يحوّل الأزمة إلى دوّامة بلا نهاية.

ومنذ سنوات النظام السابق، مرورًا بالفترة الانتقالية، وصولًا إلى الحرب الحالية، ظلّ النزيف مستمرًا.

ورغم تغيّر الوجوه، بقي النمط ذاته: استغلال موارد الوطن، والتربّح من الفوضى، وتحويل مقدّرات الدولة لصالح المصالح الشخصية.

لم يعد الفساد مجرّد تجاوز مالي أو إداري، بل تحوّل إلى فعلٍ مضادّ للوطن، يماثل في خطورته الجهات التي تقاتل القوات المسلحة بالسلاح.

وقد وجد بعض المنتفعين في دماء السودانيين، وفي خراب المدن، وفي معاناة الأسر، فرصة للغنى وسرقة الوطن.

هؤلاء لم يقفوا مع البلاد حين احتاجت إليهم، ولم يقدّموا النفس ولا المال، بل اتخذوا من الحرب معبرًا لتكوين الثروات، ثم رفعوا شعارات الوطنية بلسان لا يصدّقه الواقع.

ويصبح المشهد أكثر تعقيدًا إذا أدركنا أن الفساد في زمن الحرب لا يضعف فقط قدرة الدولة على إدارة المعركة، بل يضرب في عمق الاقتصاد الوطني؛ إذ تُهدر الموارد السيادية، وترتفع تكلفة إدارة الدولة، وتتراجع قدرة المؤسسات على الصمود تحت ضغط الإنفاق العسكري.

ومن ثمّ، فإن إطالة عمر الفساد تعني عمليًا إطالة أمد الحرب نفسها، إن الوقوف مع الوطن اليوم ليس خطبة حماسية، ولا شعارًا سياسيًا يُرفع تحت الضغط، بل هو وقفة أخلاقية وقانونية تتقدّمها محاربة الفساد بوصفها أحد مداخل التعافي الوطني. فلا يمكن بناء جيش مهني، ولا اقتصاد منتج، ولا مؤسسات عدلية مستقلة.

ولذلك تتطلّب المرحلة إعادة تأسيس منظومة مكافحة الفساد بصرامة وفاعلية، عبر بناء أجهزة رقابية مستقلة ومحميّة من الولاءات، واعتماد الإفصاح المالي الشامل للمناصب العليا، وفرض رقابة شفافة على الموارد السيادية مثل الذهب والنفط والجمارك، ومراقبة الحسابات وغيرها.

وقد أثبتت تجارب الدول التي نهضت بعد الحروب أن التعافي يبدأ من تجفيف منابع الفساد قبل وقف إطلاق النار.


لكن الدولة وحدها لا تستطيع خوض هذه المعركة ما لم يكن المجتمع شريكًا كاملًا فيها، فترسيخ ثقافة الإبلاغ لا الصمت، واحترام المال العام، ومساءلة المسؤول لا تقديسه، كلها عوامل تصنع وعيًا جمعيًا قائمًا على فهم بسيط لكنه جوهري: لا وطن يُبنى تحت إدارة تتقاسم الدولة كغنيمة، ولا سلام يستمر مع اقتصاد تغذّيه فواتير الفساد. لقد وصلت اللحظة السودانية إلى مفترق حاسم؛ فإما أن ينتصر السودان بتأسيس دولة نظيفة تقوم على الشفافية والنزاهة وسيادة القانون، أو يبقى أسير دولة منهكة تُدار في الظل وتُنهب في العلن.


ومع ذلك، فإن الأمل لا ينعدم، فالإصلاح ممكن متى ما توفّرت إرادة سياسية حقيقية، واصطف المجتمع حول مشروع وطني جامع يجعل من محاربة الفساد مدخلًا للتعافي لا شعارًا موسميًا.

فمن يقف مع الوطن حقًا هو من يحارب الفساد لا من يصنعه، ومن يتعفّف عن المال العام لا من يلتهمه، ومن يساهم في البناء لا من يقتات على الخراب. فالدول لا تسقط فقط بالرصاص، بل تُنهك حين يُدار الخراب باسمها، وتُستنزف حين يتحوّل الفساد إلى الوجه الآخر للحرب.

search