مجدي العجب يكتب: من داخل القبة.. وُلد السودان

الجمعة، 19 ديسمبر 2025 01:28 م

البرلمان السوداني

البرلمان السوداني

في التاسع عشر من ديسمبر، لم يكن البرلمان السوداني مجرد قاعةٍ تتسع للنواب، بل رحمُ فكرةٍ كبرى. هناك، تحت قبةٍ صامتةٍ إلا من نبض الكلمات، لم تُرفع البنادق، ولم تُسال الدماء، بل ارتفعت الإرادة، وتقدّم الصوت السوداني ليقول للتاريخ: نحن هنا… ونختار أنفسنا.

كان ذلك اليوم أشبه بجرس فجرٍ طويل. الكلمات التي تليت لم تكن خطاباتٍ عادية، بل مفاتيح أبوابٍ موصدة منذ قرون. حين تلا النواب قرار الاستقلال، لم يوقّعوا ورقةً فحسب، بل فكّوا قيدًا، وأعادوا تعريف الوطن بوصفه اختيارًا حرًا، لا هديةً مؤجلة ولا منحةً مشروطة. كان السودان يخرج من ظل الوصاية إلى ضوء المسؤولية، ومن انتظار الآخر إلى الثقة في الذات.

داخل البرلمان، اجتمعت الجغرافيا على كلمة واحدة. تلاقت ضفاف النيل، وسهول البطانة، وغابات الجنوب، وصحراء الشمال، في جملةٍ قصيرةٍ كثيفة المعنى: السودان دولة مستقلة كاملة السيادة. جملةٌ بدت بسيطة، لكنها كانت أثقل من الجبال؛ لأنها حمّلت أبناءها عبء الحلم وحراسة المستقبل.

لم يكن الاستقلال نهاية الطريق، بل بدايته. ففي تلك اللحظة، لم يصفّق التاريخ فقط، بل سأل: ماذا ستفعلون بما نلتم؟ وهنا، تتبدّى عظمة ذلك اليوم لا في كونه ذكرى، بل في كونه سؤالًا مفتوحًا. فالحرية التي وُلدت في البرلمان تحتاج، كل يوم، إلى من يجدد معناها، ويصونها من التبسيط، ويمنعها من التحول إلى شعارٍ بلا روح.

إن استقلال السودان لم يُكتب بالحبر وحده، بل كُتب بالوعي. وُلد قرارًا مدنيًا شجاعًا، اختار الكلمة طريقًا، والإجماع جسرًا، والسيادة مقصدًا. لذلك ظل التاسع عشر من ديسمبر علامةً مضيئة: يذكّرنا بأن الأمم العظيمة لا تبدأ بالصخب، بل بالحكمة؛ ولا تخلّدها العواطف العابرة، بل القرارات التي تُتخذ في لحظة صدق.

اليوم، كلما اشتدّت العواصف، نعود بذاكرتنا إلى تلك القبة. لا لنعيش الماضي، بل لنستعيد البوصلة. فهناك، في البرلمان، تعلّم السودان درسًا لا يشيخ: أن الوطن يُبنى حين تتقدّم المصلحة العامة على الضجيج، وحين يصبح الاختلاف ثراءً لا قطيعة، وحين تُحرس السيادة بالعقل كما تُحرس بالشجاعة.

سلامٌ على ذلك اليوم.. وسلامٌ على كلمةٍ قالتها أمة، فسمعها التاريخ.

search