د. حسين عمر عثمان يكتب: اليوم العالمي لمكافحة الفساد.. تعزيز المساءلة لحماية الدولة (2–2)
الثلاثاء، 23 ديسمبر 2025 04:29 م
حسين عمر عثمان
إلحاقًا بالمقال السابق، وفي ظل المشهد السوداني الراهن، حيث تتصدّر الحرب ووقف نزيف الدم والمعاناة الإنسانية صدارة الأولويات الوطنية، قد يرى البعض أن الحديث عن الفساد قضية مؤجَّلة يمكن تأخيرها إلى ما بعد إسكات صوت السلاح. غير أن هذا الطرح، على وجاهته الظاهرية، يغفل حقيقة جوهرية مفادها أن الفساد ليس قضية منفصلة عن النزاعات، بل كثيرًا ما يكون أحد أسبابها المباشرة أو غير المباشرة. فالفساد يضعف الدولة من الداخل، ويُفكك مؤسساتها، ويُمهّد الطريق للانهيار والصراع.
وبمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد، الذي يوافق التاسع من ديسمبر من كل عام، تبرز الحاجة إلى إعادة طرح هذا الملف في السياق السوداني بوصفه قضية وجود دولة، لا مجرد شأن إداري أو أخلاقي.
لقد أثبتت التجارب الدولية أن الفساد، حين يتحول إلى ظاهرة بنيوية، يقوّض سيادة القانون، ويُفرغ مؤسسات الدولة من مضمونها، ويحوّل السلطة العامة من أداة خدمة عامة إلى وسيلة لتقاسم المصالح والنفوذ. وفي مثل هذه البيئات، تتآكل الثقة بين المواطن والدولة، وتتراجع فكرة العدالة وتكافؤ الفرص، ما يخلق أرضية خصبة للاحتقان الاجتماعي والسياسي، ويجعل النزاعات أكثر قابلية للاندلاع والاستمرار.
ومن هنا، فإن الفساد لا يُعدّ فقط نتيجة جانبية للحروب، بل قد يكون أحد أسبابها غير المعلنة، وأحد العوامل التي تُضعف قدرة الدولة. وفي التجربة السودانية، لم تكن مسألة محاربة الفساد غائبة عن مسار الدولة، لكنها بلغت في فترات معيّنة، ولا سيما في ظل النظام السابق، مستوىً ممنهجًا ومكشوفًا.
اعترفت قيادات ذلك النظام بوجود الفساد، وتحولت معه موارد الدولة إلى غنائم، وأُضعفت الأجهزة الرقابية، وتداخلت السلطة السياسية مع الاقتصاد. وأصبح الاعتداء على المال العام، وفساد الأراضي بصفة خاصة، أمرًا معلومًا للمواطن العادي، يتداوله الناس في حياتهم اليومية قبل أن يكون محل تقارير رسمية أو تحقيقات متخصصة.
ورغم ما أعقب ثورة ديسمبر من محاولات لفتح ملفات الفساد واسترداد الأموال العامة، فإن هذه الجهود ظلت محدودة الأثر. ويرجع ذلك إلى هشاشة الإطار المؤسسي، وتداخل الصلاحيات، وتسييس بعض الملفات، وغياب آلية وطنية مستقلة ودائمة تتولى مكافحة الفساد بصورة مهنية ومنهجية.
ومع اندلاع الحرب، ستكون البيئة أكثر تهيئة لتفشي الفساد وأكثر خطورة، نتيجة تراجع الرقابة، وتعطّل أو تعثّر بعض مؤسسات الدولة، وانشغال القيادة بإدارة الملفات الأمنية والعسكرية. وقد يتيح هذا الواقع لضعاف النفوس فرصًا أوسع لنهب المال العام واستغلال الموارد، في لحظة يُفترض فيها توجيه كل الإمكانات لحماية المواطنين وتأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة.
لذا، تصبح محاربة الفساد في زمن الحرب ضرورة وطنية لا تقل أهمية عن أي أولوية أخرى، لأنها تتصل مباشرة بحماية الجبهة الداخلية، ومنع تفكك الدولة من الداخل، والحفاظ على ما تبقى من موارد عامة في لحظة شحٍّ غير مسبوقة. فالفساد، في أوقات الأزمات، لا يسرق المال العام فحسب، بل يسرق قدرة المجتمع على الصمود.
ولا يقف التحدي عند حدود الحرب، فالسودان، عاجلًا أم آجلًا، سيواجه استحقاق ما بعد الحرب، حيث تبرز مهمة إعادة بناء الدولة على أسس جديدة. ولن يكون ممكنًا الحديث عن إعادة الإعمار، أو جذب الاستثمار، أو استعادة ثقة المواطنين، من دون معالجة جذرية لإرث الفساد، ومن دون إعادة تأسيس دولة القانون التي تقوم على الشفافية والمساءلة واستقلال المؤسسات.
وتؤكد التجارب المقارنة أن الدول الخارجة من النزاعات إما أن تستثمر لحظة ما بعد الحرب في بناء مؤسسات قوية ونزيهة، أو تعيد إنتاج أسباب الانهيار نفسها بأسماء وشعارات جديدة. ومن هنا، فإن إحياء اليوم العالمي لمكافحة الفساد في السياق السوداني يجب ألا يقتصر على البعد الرمزي أو الخطابي إن وُجد، بل ينبغي أن يشكّل مدخلًا لنقاش وطني جاد حول موقع الفساد في الأزمة السودانية، وحول الانتقال من الإدانة الأخلاقية إلى المعالجة المؤسسية.
وفي هذا الإطار، سنطرح في مقال لاحق مقترحًا متكاملًا لاستحداث هيئة سودانية مستقلة لمحاربة الفساد، بوصفها إحدى الأدوات الأساسية لحماية المال العام، وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع، ووضع الأساس لدولة القانون في زمن الحرب، وتمهيدًا لمرحلة ما بعد الحرب.
فمحاربة الفساد ليست معركة مؤجَّلة إلى حين توقف المدافع، بل شرط من شروط وقف الانهيار، وبداية الطريق نحو إعادة بناء الدولة.
نسخ الرابط للمقال
آخبار تهمك
"المسرح رسالة.. إسعفك أمانة": مبادرة سودانية لتعزيز ثقافة الإسعاف بين الفنانين في بورتسودان
23 ديسمبر 2025 04:16 م
«نجمة الجنوب».. راما الشريف تشارك في تقديم مهرجان «إبداعات الشعوب» بالرياض
21 ديسمبر 2025 10:39 ص
خالد الاعيسر ينعى الموسيقار الدكتور عبد القادر سالم
16 ديسمبر 2025 03:59 م
مكتول هواك يا كردفان: وداعًا عبدالقادر سالم صوت الأرض والذاكرة
16 ديسمبر 2025 02:38 م
وفاة الفنان عبدالقادر سالم.. صوت كردفان الأصيل يرحل عن الحياة
16 ديسمبر 2025 02:32 م
عاطف السماني يُجري عملية قسطرة بالقلب ويطمئن جمهوره على صحته
16 ديسمبر 2025 11:13 ص
الأكثر قراءة
-
رشان أوشي تكتب: كامل إدريس.. إليكم مرجعية الدولة وشروطها
-
بشرى للسودانيين بليبيا.. حكومة الدبيبة تعفي الطلاب من شرط الإقامة للالتحاق بالمدارس
-
مستشار رئيس الوزراء يحسمها: لا مفاوضات أو لقاءات مع وفد إماراتي خلال زيارة إدريس لنيويورك
-
لمواجهة البرودة.. إجراءات عاجلة في مدارس ولاية نهر النيل لتعديل مواعيد اليوم الدراسي
-
"المسرح رسالة.. إسعفك أمانة": مبادرة سودانية لتعزيز ثقافة الإسعاف بين الفنانين في بورتسودان
أكثر الكلمات انتشاراً