استحداث هيئة مستقلة لمكافحة الفساد من ركائز الأمن القومي (3–3)
الثلاثاء، 30 ديسمبر 2025 11:53 ص
د. حسين عمر عثمان
د. حسين عمر عثمان
استكمالًا للمقالين السابقين، ينطلق هذا المقال من اعتبار مكافحة الفساد ركيزةً للأمن القومي، عبر بناء هيئة مستقلة تحمي المال العام وتحصّن مؤسسات الدولة في زمن الأزمات، بوصف ذلك التزامًا وطنيًا ذا طبيعة قانونية ودستورية، يرتبط ارتباطًا مباشرًا بحماية كيان الدولة وضمان حسن استمرارية مؤسساتها العامة. فالفساد، ولا سيما في لحظات الأزمات وعدم الاستقرار، لا يقف عند حدود المخالفات الإدارية أو الجرائم المالية المعزولة، بل يتحول إلى خطر يضعف فعالية الأجهزة العامة، ويستنزف الموارد العامة، ويُفرغ أي حديث عن الوطنية أو الإصلاح من مضمونه الحقيقي. ويستند هذا الالتزام، من حيث المرجعية القانونية، إلى الإطار الدولي الذي أرسته اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، بوصفها الصكّ العالمي الأشمل في مواجهة هذه الظاهرة.
فقد قرّرت الاتفاقية أن مكافحة الفساد ليست مسألة إدارية داخلية فحسب، بل مسؤولية قانونية ذات أبعاد وقائية وتجريمية وتعاونية، تشمل تعزيز النزاهة والشفافية، وتجريم أفعال الفساد، وحماية المال العام، وتفعيل آليات المساءلة، والتعاون الدولي، واسترداد الأصول المنهوبة. وتؤكد التجارب أن انهيار الدول لا يتحقق فجأة، وإنما يتسارع حين تُهدر الأموال العامة دون مساءلة، وتُعطَّل آليات المحاسبة، وتُختزل السلطة العامة في منطق الغنيمة. فالدولة الحديثة لا تكتفي بالنصوص العقابية، بل تُقيم مؤسسات مستقلة تتولى الوقاية والكشف والمساءلة، بما يحفظ التوازن بين السلطات ويعزز ثقة المجتمع في أجهزة الحكم. وفي الحالة السودانية، تبرز الحاجة الملحّة إلى تأسيس منظومة مؤسسية لمكافحة الفساد، تتجاوز المعالجات الجزئية واللجان المؤقتة، نحو بناء مؤسسة وطنية مستقلة وقوية، قادرة على أداء دورها باستمرارية ومهنية، بعيدًا عن التسييس أو الانتقائية. فالمشكلة في السودان لم تكن غياب القوانين أو النصوص، بل الإرادة السياسية وغياب المؤسسة المستقلة القادرة على إنفاذها بعدالة، لا سيما في وقت الحرب حيث تتراجع الرقابة التقليدية، وتتضاعف فرص الاعتداء على المال العام.
وانطلاقًا من ذلك، فإن استحداث هيئة سودانية قومية مستقلة لمكافحة الفساد ينبغي أن يتم بقانون خاص، مع سند صريح يضمن استقلالها المالي والإداري والفني، ويحميها من أي وصاية تنفيذية أو تدخل سياسي، ويتعين أن تتمتع هذه الهيئة بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة، وأن تكون لها ولاية قومية تشمل جميع مؤسسات الدولة، مع فروع في الولايات، بما يعكس مركزية المهمة واتساع نطاقها. ولا ينبغي النظر إلى هذه الهيئة بوصفها جهازًا إداريًا إضافيًا، بل باعتبارها إحدى ركائز الأمن القومي، خاصة في زمن الحرب، حيث يصبح المال العام أكثر عرضة للسرقة.أما من حيث نطاق الفساد الذي تستهدفه الهيئة، فلا بد من تعريفه تعريفًا واسعًا يشمل جميع الأشكال، مثل: استغلال الوظيفة العامة، وإساءة استعمال السلطة، والاعتداء على المال العام، والإثراء غير المشروع، والرشوة، والاختلاس، والتزوير، والمحسوبية، والوساطة غير القانونية، وغسل الأموال المتحصلة من الفساد، وكل سلوك يتعارض مع مبادئ النزاهة والشفافية.
فقد أثبتت التجربة السودانية أن حصر الفساد في صور ضيقة كان أحد أهم أسباب فشل مكافحته تاريخيًا وعلى المستوى المؤسسي، يُقترح أن تقوم الهيئة على قيادة جماعية قانونية ومهنية، تتمثل في مجلس مفوضين مستقل يضم رئيسًا ونائبًا وعددًا محدودًا من الأعضاء المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والاستقلال.
ويُحظر على أعضاء المجلس شغل أي مناصب تنفيذية أو حزبية طوال فترة عضويتهم، على أن يتم تعيينهم عبر آلية ترشيح مستقلة واعتماد برلمان انتقالي، أو من مجلس السيادة في المرحلة الانتقالية، ولمدة محددة تتراوح بين ثلاث أو أربع سنوات، لا يجوز إنهاؤها إلا بإجراءات قضائية صارمة. ويتكامل مجلس المفوضين مع أمانة عامة مهنية تضم إدارات متخصصة في التحري والتحقيق، والملاحقة القانونية، واسترداد الأموال والأصول، والوقاية وتقييم مخاطر الفساد، وحماية المبلّغين والشهود، ونشر ثقافة النزاهة داخل المجتمع، وبناء القدرات، والتنسيق مع المجتمع المدني والإعلام. وفيما يتعلق بالعلاقة مع النيابة العامة والقضاء، فإن الهيئة لا تحل محل أجهزة العدالة، بل تعمل في إطار تكاملي واضح، تتولى فيه مهام التحري والتحقيق وجمع الأدلة، مع إحالة القضايا مكتملة إلى النيابة والقضاء المختصين، بما يضمن احترام مبدأ الفصل بين السلطات، وصون الحقوق الإجرائية، وتحقيق العدالة دون تغوّل أو ازدواج اختصاص.
وتُناط بالهيئة صلاحيات جوهرية تشمل التحري والتحقيق المستقل، وطلب المعلومات والمستندات من أي جهة عامة أو خاصة، واستدعاء الأشخاص لسماع أقوالهم، وإحالة القضايا إلى القضاء المختص، وطلب تجميد الأموال والحسابات وفقًا للقانون، والتعاون مع الجهات الدولية في تتبع واسترداد الأموال المنهوبة، ومراجعة إقرارات الذمة المالية للمسؤولين، وإصدار تقارير دورية علنية تعكس حالة الفساد في الدولة.
ولا تكتمل هذه الصلاحيات دون ضمانات حقيقية ضد التسييس، والحصانة الوظيفية أثناء أداء المهام، وعدم جواز العزل أو الإعفاء إلا بحكم قضائي.
وتؤكد التجارب الإقليمية، ولا سيما في المملكة العربية السعودية ودولة الكويت وغيرها، أن نجاح هيئات مكافحة الفساد مرهون بثلاثة شروط أساسية: استقلال حقيقي غير شكلي، ودعم قانوني وسياسي واضح، وربط مكافحة الفساد بمشروع الدولة التنموي لا بالصراع السياسي.
وقد أثبتت هذه النماذج أن مكافحة الفساد ليست شعارًا، بل ممارسة مؤسسية وثقافة مجتمعية قادرة على استرداد الأموال، وردع المتجاوزين، واستعادة ثقة المجتمع .
وخلاصة القول، إن استحداث هيئة سودانية قومية مستقلة لمكافحة الفساد ليس خيارًا سياسيًا ولا استجابة ظرفية، بل التزام دستوري وقانوني وأخلاقي، وشرط لازم لأي انتقال حقيقي نحو دولة القانون والمؤسسات.
فمن دون مؤسسة مستقلة وقوية، ستظل مكافحة الفساد انتقائية، وسيبقى الإصلاح رهين النوايا، وستتجدد الأزمات مهما تبدلت الأنظمة وتغيرت الشعارات، إن معركة النزاهة في السودان ليست ملفًا إصلاحيًا مؤجلًا، بل شرطًا للإصلاح.
نسخ الرابط للمقال
آخبار تهمك
الفنانة مكارم بشير تعقد قرانها فى القاهر
30 ديسمبر 2025 12:03 م
مدير أعمال إيمان الشريف ينفي شائعة عودته للعمل مع الفنانة إنصاف مدني
27 ديسمبر 2025 08:55 م
غضب بعد رقص طالب أمام معلمه بأحد الفصول.. والمدرسة تفصله
26 ديسمبر 2025 08:39 م
"المسرح رسالة.. إسعفك أمانة": مبادرة سودانية لتعزيز ثقافة الإسعاف بين الفنانين في بورتسودان
23 ديسمبر 2025 04:16 م
«نجمة الجنوب».. راما الشريف تشارك في تقديم مهرجان «إبداعات الشعوب» بالرياض
21 ديسمبر 2025 10:39 ص
خالد الاعيسر ينعى الموسيقار الدكتور عبد القادر سالم
16 ديسمبر 2025 03:59 م
الأكثر قراءة
-
الفنانة مكارم بشير تعقد قرانها فى القاهر
-
والي الخرطوم: الانتقال إلى مرحلة التعافي والعمران بعد استدامة الخدمات
-
عودته كانت أهم من أي انتصار .. بخيت خميس يعلق على سقوط الحارس منجد النيل مغشيا عليه
-
استحداث هيئة مستقلة لمكافحة الفساد من ركائز الأمن القومي (3–3)
-
حملة علاج الثروة الحيوانية.. تطعيم 280 ألف رأس ماشية في الولاية الشمالية
أكثر الكلمات انتشاراً