هندسة الانتقال السياسي المتدرج في السودان بعد الحرب

الخميس، 01 مايو 2025 06:17 م

د. حسين عمر عثمان

د. حسين عمر عثمان

وجهة نظر.. د. حسين عمر عثمان 

منذ استقلال السودان، ظل المشهد السياسي يدور في نمط متكرر: ثورة تعقبها فترة انتقالية قصيرة، ثم تجربة ديمقراطية هشة بسبب عدم التمهيد الجيد لها، لا تلبث أن تُجهض بانقلاب عسكري يعيد البلاد إلى نقطة البداية. غير أن ما يواجهه السودان اليوم من حرب شاملة، وانهيار مؤسسات الدولة، وتفكك في النسيج الاجتماعي، إضافة إلى دخول الحركات المسلحة في المعادلة السياسية، يفرض إعادة النظر جذريًا في نمط الانتقال السياسي السابق، وابتكار نموذج واقعي يتناسب مع طبيعة المرحلة.

فالسودان ما بعد الحرب ليس كما كان؛ إذ تتجاوز التحديات التي أفرزها الصراع قدرة أي نظام انتقالي على معالجتها وتجاوزها. فالانتقال السريع إلى الديمقراطية في بلد مثل السودان، بعد حرب مدمرة، هو أمر غير واقعي. فبلد له تاريخه الطويل من النزاعات والانقسامات لا يمكن أن يتعافى عبر آليات هشّة أو حلول متعجلة، بل يحتاج إلى رؤية متدرجة، ناضجة وشاملة، تستند في الأساس إلى اعتبارات الأمن القومي كأولوية قصوى، وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، وإعادة بناء الثقة المجتمعية، والتوافق على مشروع وطني جامع.

المرحلة الأولى في هذا النموذج تقوم على حكم مؤقت من تحالف بين قيادة عسكرية وكفاءات تكنوقراطية، تُفعَّل من خلال مجالس خبراء تُشكَّل لكل وزارة، تضم شخصيات مهنية مستقلة ذات كفاءة وسجل وطني مشهود، يُراعى فيها تمثيل جميع الولايات. وتتمثل مهام هذه المرحلة في استعادة الأمن، واحتكار الدولة للقوة والسلاح، وتفكيك الميليشيات، ودمج الحركات المسلحة في جيش قومي مهني، وتأمين الحدود، ومنع التدخلات الخارجية، إضافة إلى إعادة تشغيل المرافق الحيوية، وضمان الشفافية ومحاربة الفساد، وبناء مؤسسات دولة فاعلة.

تُدار هذه المرحلة عبر قبضة أمنية قانونية مؤقتة، لكنها تخضع لرقابة مجلس تشريعي توافقي يُمثّل القوى السياسية والمدنية وممثلي الأقاليم، ويضمن احترام القانون وحماية الحقوق. ويُتفق على تفاصيل هذه المرحلة من خلال مائدة حوار وطنية شاملة، تُحدّد الإطار الزمني والمهام والمسؤوليات، على أن لا تتجاوز مدتها ثماني سنوات.

تلي ذلك مرحلة انتقالية مدنية تُدار من خلال ديمقراطية توافقية تستمر لخمس سنوات، وتركز على ضمان التمثيل العادل لجميع ولايات السودان، وإعادة هيكلة الحياة السياسية والحزبية، وإتاحة الفرصة أمام الحركات المسلحة للتحول إلى كيانات سياسية مدنية. وتُنشأ خلال هذه المرحلة وزارة خاصة بالشؤون السياسية تُشرف على تنظيم النشاط الحزبي وضبطه وفق الأطر القانونية.

كما يُطلق برنامج وطني للعدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية يعالج آثار الحرب، ويعيد الاعتبار للضحايا، ويؤسس لسلام اجتماعي دائم. ومع اكتمال بناء مؤسسات الدولة، تبدأ المرحلة الديمقراطية التنافسية الكاملة بعد استيفاء متطلباتها، بضمانات دستورية ومؤسسية، وبإشراف قضاء مستقل وهيئة انتخابية مهنية نزيهة، تضمن التداول السلمي للسلطة، وتعزز الشفافية والمساءلة والمشاركة السياسية الفاعلة.

لقد أثبتت تجارب دول مثل رواندا وجنوب إفريقيا أن الانتقال المتدرج، القائم على المصالحة والأمن، هو السبيل الأفضل لتحقيق الاستقرار، بخلاف النماذج المتسرعة التي غالبًا ما تنتهي إلى فوضى جديدة. ومن هنا، فإن هذا النموذج لا يمثل مصادرة للديمقراطية، بل تأسيسًا سليمًا لها؛ فالدولة لا تُبنى في غياب الأمن، ولا تُجرى انتخابات بلا مؤسسات، ولا يتحقق التمثيل السياسي في ظل الفوضى وغياب العدالة.

إن الانتقال السياسي ليس مجرد لحظة أو قرار، بل هو مسار وطني طويل يتطلب الحكمة، والتدرج، والإرادة الجماعية. لقد دفع السودان ثمنًا باهظًا للفوضى والانقلابات والتجريب السياسي، وقد آن الأوان للشروع في مرحلة جديدة نؤسس فيها لدولة القانون، ونبني نظام حكم ديمقراطيًا مستقرًا قائمًا على المؤسسات، وبعيدًا عن الأيديولوجيات الضيقة وأشكال الوصاية. إن الخروج من أنقاض الحرب لا يمكن أن يتحقق إلا عبر مسار متدرج، عادل، وتوافقي، يُمهّد الطريق نحو مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

search