شهادة طبيب من جحيم الفاشر .. رأيت طفلا يتحرك بين الجثث ويمسك بيدي و"آل دقلو" يذبحون 70 في لحظة واحدة

الأحد، 02 نوفمبر 2025 11:27 ص

ضحايا الفاشر

ضحايا الفاشر

 

كانت رائحة الدخان تملأ الممرات الضيقة، بينما يختلط صدى الصراخ بصوت الطائرات المسيّرة التي لا تغادر سماء المدينة. في تلك الليلة التي لم تنم فيها الفاشر، تحوّل المستشفى السعودي – آخر ملاذ للجرحى والمرضى – إلى مقبرةٍ جماعية. أكثر من 460 مريضًا ومرافقًا قُتلوا عندما سيطرت ميليشيا الدعم السريع على المدينة، وبدأ القصف العشوائي على المستشفى.

من بين من نجا، كان الدكتور محمد – الطبيب الشاب الذي أرسل قبل ساعات من المأساة تسجيلات صوتية إلى زملائه في الخرطوم، وصف فيها واقعًا يفوق الخيال. “ترى مريضًا ينزف أمامك ولا تستطيع مساعدته”، قال بصوت متهدّج. “نستخدم أغطية الأسرّة كضمادات، ودواءً منتهي الصلاحية منذ سنوات”.

يوم القصف: ظلام، دماء، وطفل يتشبث بالحياة

بدأ الهجوم مع بزوغ الفجر. طائرة مسيّرة حلّقت فوق جناح العائلات، ثم سقط الصاروخ الأول. لم يتوقف القصف، حتى بعد أن تحوّلت غرف المرضى إلى رماد.
يصف الطبيب المشهد قائلًا:

“كان أسوأ يوم في حياتي. قُصفت غرفة الطوارئ ومات سبعون شخصًا في لحظات. في الظلام، رأيت طفلًا صغيرًا يتحرك بين الجثث. ظننته ميتًا، لكنه أمسك بيدي. لم أستطع إنقاذه لأن الطائرة كانت لا تزال فوقنا.”

من طبيبٍ إلى لاجئٍ داخل المستشفى

قبل الحرب، كان الدكتور محمد يحلم بالحصول على درجة الماجستير في علم التشريح، ثم التدريس في جامعة الفاشر. كان يؤمن بأن العمل الجاد يمكن أن يُعيد للمؤسسة الطبية في دارفور مكانتها.
لكن أحلامه انهارت مع كل قذيفة. يقول بأسى:

“أصبحنا نبحث عن الطعام أكثر من الدواء. نأكل أحيانًا الأومباز (علف الحيوانات) لنواصل العمل. كيلو الأرز وصل إلى 500 ألف جنيه سوداني. لم يعد أحد في المدينة يأكل ثلاث وجبات، بالكاد واحدة.”

موتٌ بلا حدود

لم ينجُ زملاؤه من القصف.
الدكتور عمران قُتل في مخيم أبو شوك، والدكتور محمود في مستشفى زمزم، والصيدلانية آمنة في صيدليتها.
حتى الممرضون وعمال النظافة سقطوا ضحايا في طريقهم إلى المستشفى. يقول محمد:

“لم يعد أحدٌ فينا سليمًا نفسيًا. كلنا مرضى نحاول البقاء على قيد الحياة لنخدم الآخرين.”

المأساة المستمرة

رغم الدمار، يواصل من تبقّى من الكوادر الطبية علاج من يصل إلى المستشفى بما توافر من مواد بسيطة. ومع تصاعد الأزمة الإنسانية، حذرت منظمات الإغاثة من انهيار كامل للقطاع الصحي في دارفور، خصوصًا بعد تسجيل أكثر من 185 هجومًا على المرافق الطبية منذ أبريل 2023.

لكن الدكتور محمد، الذي لا يُعرف مصيره حتى الآن، أنهى رسالته الأخيرة بكلمات تلخص المأساة والأمل معًا:

“لن أغادر. استقرار السودان يبدأ من بقاء الفاشر حيّة. نحن مدينون لهذه المدينة.”

search