رشان أوشي تكتب: عصا الدولة وعسكرة السياسة
الإثنين، 22 ديسمبر 2025 03:32 م
الكاتبة الصحفية رشان أوشي
صراحة، أدهشتني الحملة العنيفة التي طالت تظاهرة شبابية في شوارع أم درمان إحياءً لذكرى "ثورة ديسمبر". رفعوا شعارات فقط، كلمات في الفضاء العام، لا أكثر. ومع ذلك، انطلقت ماكينة إشعال الرأي العام، مطالبة الدولة باستخدام القوة. والمدهش أن دعاة القمع كانوا من قلب كيانات سياسية وأقلام يفترض أنها تنتمي لمعسكر الحرية.
هنا يبرز السؤال الأخلاقي: كيف يتحول دعاة الحريات إلى منظري القمع؟ وكيف يُطلب من الدولة أن تنقض على الفضاء العام؟ إن ماكينة القمع لا تستثني أحداً، وستطال الجميع إذا جرى تشريعها أخلاقياً وسياسياً.
نعم، البلاد في حالة حرب، لكن الحرب في التحليل السياسي ليست قدراً، بل نتيجة لمسار. فهل كانت حرب 15 أبريل غاية بحد ذاتها، أم مآل طبيعي لتراكمات الإقصاء، وتآكل التوافق، واحتكار القرار داخل دوائر مغلقة؟ الأرجح أنها كانت النتيجة المنطقية لانهيار العقد الاجتماعي، عندما أفرغت السياسة من معناها، واستبدل التنافس السلمي بمنهج الغلبة، وتحولت الدولة من إطار جامع إلى أداة صراع.
بدأت الأزمة سياسية بامتياز: تضييق على الحريات العامة، إقصاء فئات كاملة من الفضاء العام، ومحاولات مستمرة لاختطاف القرار الوطني. هكذا تطورت المعركة من نزاع على السلطة إلى حرب مفتوحة، أفضت إلى نزوح الملايين، وتدمير البنى التحتية، ومحو أجزاء من الذاكرة الوطنية. وهذا هو المسار الكلاسيكي لما تسميه العلوم السياسية "عسكرة السياسة"، حين تفشل المؤسسات المدنية في استيعاب الاختلاف على الحد الأدنى.
إن أخطر ما يمكن أن تواجهه دولة تتشكل أثناء حرب طاحنة ليس التظاهر السلمي، بل الذهنية التي ترى في كل اختلاف تهديداً وجودياً. فالدولة التي تخاف من الشعارات، وتخشى الصحافة والرأي، ستخاف غداً من المجتمع نفسه.
وبما أن قوى اليمين استطاعت التعبير عن موقفها الوطني عبر خطاب الحرب والمقاومة، فإن من حق المجموعات اليسارية، التي قاتلت أيضاً في صفوف الجيش، أن تعبر عن مشروعها السياسي المرتكز على "ثورة ديسمبر". هذا التنوع في الرؤى والتعبير ليس خطراً على الدولة، بل دليل على حيويتها، طالما أنه يتم تحت مظلتها وفي إطارها القانوني والسياسي.
لن تكون حرب 15 أبريل آخر حروب السودان، ما لم يُستأصل منهج الإقصاء، وما لم يُعاد تعريف الدولة بوصفها حكمًا محايداً في الحلبة، لا لاعباً منحازاً في فريق، وفضاءً للتعدد وليس سجنًا للاختلاف. يجب إعادة السياسة إلى مكانها الطبيعي: ساحة مفتوحة للتعبير، والتفاوض، وصناعة المستقبل المشترك. أما القمع، فليس سوى استثمار مؤجل في حرب قادمة.
نسخ الرابط للمقال
آخبار تهمك
«نجمة الجنوب».. راما الشريف تشارك في تقديم مهرجان «إبداعات الشعوب» بالرياض
21 ديسمبر 2025 10:39 ص
خالد الاعيسر ينعى الموسيقار الدكتور عبد القادر سالم
16 ديسمبر 2025 03:59 م
مكتول هواك يا كردفان: وداعًا عبدالقادر سالم صوت الأرض والذاكرة
16 ديسمبر 2025 02:38 م
وفاة الفنان عبدالقادر سالم.. صوت كردفان الأصيل يرحل عن الحياة
16 ديسمبر 2025 02:32 م
عاطف السماني يُجري عملية قسطرة بالقلب ويطمئن جمهوره على صحته
16 ديسمبر 2025 11:13 ص
رعاية رسمية لعلاج فائزة عمسيب تقديرًا لمسيرتها الفنية
15 ديسمبر 2025 12:39 م
الأكثر قراءة
-
رشان أوشي تكتب: كامل إدريس.. إليكم مرجعية الدولة وشروطها
-
الفاو: 21 مليون سوداني يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد
-
لمواجهة البرودة.. إجراءات عاجلة في مدارس ولاية نهر النيل لتعديل مواعيد اليوم الدراسي
-
الدكتور أسامة الفاتح العمرى يكتب: زاوية تاريخية ومقاربة سياسية: إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان (19 ديسمبر 1955) بين فشل المرحلة الاستعمارية وخصومة القوى الوطنية
-
بشرى سارة للشباب.. وظائف جديدة في ديوان الزكاة لحملة البكالوريوس والشهادة الثانوية
أكثر الكلمات انتشاراً