هبة شوقي تكتب: المجلس الأعلى للثقافة.. يكتب وصيته الأخيرة

الجمعة، 18 يوليو 2025 10:01 م

هبة شوقي

هبة شوقي

في كل مرة يُعلَن فيها عن تشكيل جديد للمجلس الأعلى للثقافة، نكتشف – ربما بدهشة باهتة اعتدناها – أن الآلية نفسها تتكرر، والوجوه تكاد تتكرر معها، أو على الأقل تنتمي جميعها إلى نفس الجيل الذي تجاوز، بلا نزاع، عتبة الكهولة إلى شيخوخةٍ مطمئنة.
هنا، لا ننتقص من قامات فكرية وفنية قدّمت للوطن ما يستحق الاعتزاز، لكن السؤال الذي يُقلق الضمير الثقافي قبل أن يُقلق الرأي العام هو.. أية ثقافة نريد أن نؤسسها للمستقبل إذا كان صُنّاع سياساتها لا يرون هذا المستقبل إلا من شرفة الماضي؟
كأننا لم نتعلم شيئاً، وكأننا لم نقرأ التاريخ ولا حتى عنوناه على رف مكتبتنا.. المجلس الأعلى للثقافة في تشكيله الجديد، يبدو وكأنه اجتماع عائلي محترم لكبار السن، يُتلى فيه البيان الختامي مسبقاً قبل أن يلتئم الجمع أصلاً.
اللافت ليس فقط أن أصغر عضو في المجلس قد تجاوز الستين، بل أن هذا لم يأتِ بمحض الصدفة. إنما هو نتاج آلية اختيار مُحكَمة، تُبقي المجلس في حوزة جيلٍ واحد، حتى لو تغيّر الأشخاص.
هذه الآلية لم تُصَغ قط بروح السؤال.. ماذا نريد من المجلس الأعلى للثقافة اليوم؟ هل نريده مجلساً يُفكّر في تحديات الرقمنة والذكاء الاصطناعي وتغيّر بنية الجمهور؟ أم نريده مجلساً يكتب بيانات احتفالية بلغة الخمسينيات؟
منذ سنوات طويلة، ونحن نردد الكلمات نفسها عن "تجديد الدماء" و"تمكين الشباب" و"فتح النوافذ للجيل الجديد"، ثم نفاجأ في كل مرة بأن النوافذ أُغلقت بإحكام، وأن مقاعد صنع القرار محجوزة لأصحاب الشعر الأبيض والتجارب القديمة.
لنكن صرحاء.. كيف يُختار أعضاء المجلس الأعلى للثقافة؟ الكل يعرف، ولا أحد يجرؤ أن يقول بوضوح.. الترشيحات تدور في حلقات محدودة، وتُحسم غالباً بتوازنات محسوبة بين أسماء لها وزنها الأكاديمي، وأسماء لها مكانتها الرسمية، وقليل من أسماء لها رصيد شعبي كمسكّن.
الشباب؟ لا مكان لهم إلا في لجان فرعية أو مقاعد المتفرجين.. وكأننا نريد ثقافة تُشبهنا نحن، لا تُشبه أبناء هذا الزمن.
شيوخ الكلام... وصمت الأفعال.. الأسماء المعلنة لا ينقصها التاريخ ولا ينقصها العلم، لكن ينقصها شيئان أساسيان.. روح القلق وروح المغامرة.. نحن أمام جيل شبع من الكلام في المؤتمرات والندوات، ويخشى الصدام مع السلطة أو الجمهور أو حتى مع نفسه.
والمؤسف أن الثقافة – بطبيعتها – لا تُدار إلا بروح القلق.. القلق من السائد، القلق من السلطة، القلق من الجهل، القلق حتى من الذات.
لكن ما الذي ننتظره من مجلس يقوده من تجاوزوا السبعين؟ هل سينزلون إلى الشوارع والورش والمسارح الصغيرة؟ هل سيجلسون في حلقات نقاش مع رسامي الجرافيتي ومغنّي الراب وصُنّاع المحتوى؟ أم سيكتفون بالبيانات الرسمية المطمئنة؟
إن أكبر مأزق يكشفه التشكيل الجديد ليس في الأسماء وحدها، بل في الآلية نفسها.. آلية شبه مغلقة، أشبه بورشة داخل جدرانها العالية، حيث تدور الترشيحات والتزكيات في دائرة ضيقة، وتُمنح المقاعد عادةً لمن اجتاز اختبار الولاء لجماعة النخبة العمرية والفكرية.
وفي هذا المشهد، يكاد لا يجد الشباب منفذاً للدخول، إلا من باب سكرتارية أو لجان فرعية، لا تصنع قراراً ولا ترسم سياسة.
وهنا يصبح السؤال مشروعاً، بل واجباً.. لماذا لا تفتح الدولة هذه الآلية لنقاش عام؟ لماذا لا يُسأل أهل الثقافة في الشوارع والجامعات والمواقع المستقلة؟ لماذا لا تُطرح الأسماء للمجتمع الثقافي الواسع قبل اعتمادها رسمياً؟ ولماذا تُغلق الأبواب أمام دماء جديدة تحمل قلق الأسئلة لا طمأنينة الأجوبة الجاهزة؟
ثقافة تتحدث إلى نفسها.. إن أخطر ما في المشهد أن المجلس الأعلى للثقافة – بتركيبته الراهنة – بات يشبه حلقة ضيقة تتبادل الأحاديث مع نفسها، فيما تنقطع الصلة بينه وبين ملايين الشباب الذين يتنفسون لغة مختلفة، ويعيشون إيقاعاً مختلفاً، ويواجهون أسئلة لم تعد مطروحة عند جيل الشيوخ.
هؤلاء الشباب لا يجدون أنفسهم في برامج المجلس ولا في لجانه ولا في خطابه.. بل لا يجدون حتى شجاعة اعتراف بأن المجلس فقد صلته بجيل المستقبل، لأن من يقوده ينتمي إلى جيل ماضٍ مهما كان مجيداً.
والنتيجة أن القرار الثقافي نفسه صار هَرِمًا، لا يملك أن يُدهش أو يُصدم أو يُشاكس. في بلد يُقال إنه يمتلك طاقة إبداع شابة هائلة، نجد أن رسم السياسة الثقافية يُسلَّم بالكامل تقريباً إلى من تجاوزوا الستين والسبعين.
ولا أحد يجيب.. أليس للشباب حق في أن يقرروا أي ثقافة يريدونها؟ أليس لهم حق في أن يخطئوا ويصيبوا، بدلاً من أن تُفرض عليهم وصاية فكرية بحجة الخبرة وطول التجربة؟
الاشتباك مع الحاضر... أم الاشتباك مع الذات؟.. إن أزمة المجلس ليست مجرد أزمة تشكيل، بل أزمة فلسفة.. فلسفة ترى الثقافة مشروعاً أبوياً يُدار من أعلى، بدلاً من أن تكون فضاءً مفتوحاً للجدل والاختلاف والاجتهاد.
وفي لحظة تحتشد فيها أسئلة الهوية والحرية والتجديد أمام المجتمع كله، لا يمكن أن نواجه هذا الزخم بعقلية محافظة تخشى المغامرة، وتخشى أن يُسمع صوت الشباب المختلف.
الثقافة الحقيقية لا تعرف الشيخوخة. لكنها تصبح مُتعبة حين يُحتكر قرارها في أيدٍ أرهقها العمر وأعياها الجدل الطويل.. الثقافة تحتاج دائماً إلى من يُزعجها بالأسئلة الجديدة، لا من يُهدّئها بالأجوبة القديمة.
يا سادة، معارك الثقافة تُحسم في توقيتها لا بعد نصف قرن.. لا يمكن أن نصنع سياسات ثقافية لجيل الألفية بروح الستينيات.. ولا يمكن أن نقنع شباباً لم يرَ التلفزيون أصلاً أن يسمع دروساً طويلة عن "ريادة مصر الثقافية" دون أن نُقدّم له مشروعاً حقيقياً يعيش فيه.
القضية ليست ضد الكبار، ولكن ضد أن تتحول الحكمة إلى وصاية، وأن تتحول التجربة إلى مقصلة تقطع رؤوس أي جديد.
السؤال الذي لا يُطرح.. لماذا لا نسأل أنفسنا.. ما الذي يخيفنا من الشباب؟ هل نخاف أن يُفسدوا المؤسسة؟ أم نخاف أن يكشفوا أنها مؤسسة بلا روح؟ أم نخشى أن يطرحوا أسئلة لا نجد لها إجابة؟
هذا السؤال لا يُطرح، ولن يُطرح، ما دام المجلس يُدار بروح "غرفة كبار الزوار".
ولو كانت هناك إرادة سياسية حقيقية لصناعة مشروع ثقافي وطني يتصل بالمستقبل، لكانت آلية التشكيل نفسها قد تبدلت.. لجنة مفتوحة من مختلف الأجيال، تصغي للشباب قبل أن تفرض عليهم أسماءً لم يختاروها، وتجرؤ على أن تُدخل مجلس الكبار دماءً شابة تعرف الشارع مثلما تعرف الكتب.
إنني لا أدعو إلى إقصاء الكبار، فالتجربة رصيد لا يُستهان به.. لكن التجربة وحدها لا تكفي إذا لم تُفتح الأبواب أمام جيل جديد يرى ما لا نراه، ويحلم بما لا نجرؤ على الحلم به.
وإلا سيبقى المجلس الأعلى للثقافة – بكل ما يمثله – مؤسسة تُدير ظهرها للمستقبل، وتكتب بياناً ثقافياً طويلاً... لا يقرأه أحد.

search