كجونكات حتى الممات .. أحمد الصادق يعود من جديد ويغني للسودانيين في الحرب من القاهرة

الجمعة، 14 نوفمبر 2025 10:31 ص

أحمد الصادق

أحمد الصادق

تقرير : اجلال اسماعيل

سبع سنوات ليست رقمًا عابرًا في حياة فنان. هي وقت كافٍ لأن تخبو الأضواء، وأن تنشغل الأجيال الجديدة بأسماء أخرى، وأن تتراجع المساحة التي كان يحتلها في الوجدان. لكنّ هذا لا ينطبق على أحمد الصادق، لأنه لم يكن مجرد مغنٍ مرّ على الساحة ثم ابتعد؛ بل كان – وما زال – حالة فنية أصيلة، راسخة، محمولة على موجات من الشغف والعاطفة، وصوت لا يشيخ مهما طال عليه الصمت.

جمهور الأمس… لوحة من الحنين والوفاء

في حفل البارحة، لم يكن المشهد اعتيادياً. المدرجات تمايلت كجسد واحد، آلاف الحناجر تعيد الكلمات قبل أن ينطق بها أحمد، وكأن الغياب لم يحدث، وكأن السنوات السبع كانت لحظة صمت قصيرة بين مقطعين موسيقيين.

الجمهور الذي امتلأ ت به الساحة لم نشهده بهذه الكثافة منذ زمن. ناس جاءوا من كل الاتجاهات، يحملون شوقاً مكتوماً، وذاكرة صوتٍ محفوظة في الروح. لم يكونوا فقط مستمعين؛ بل كانوا شركاء في الغناء، في الاحتفال، وفي صناعة اللحظة نفسها. كل لقطة من الحفل كانت تقول إن أحمد لم يفقد شيئًا… بل عاد وفي رصيده حبّ أكبر، واشتياق أعمق.

فنان لم تسقطه المسافات

هناك فنانون يغيبون فتغيب ذكراهم، وهناك فنانون يختفون قليلًا ثم يعودون ليجدوا أن جمهورهم انتقل لغيرهم. لكن أحمد ينتمي لفئة نادرة: فئة من بقيت أغنياته حاضرة في المناسبات، وفي السيارات، وفي ذاكرة الحب السوداني، وفي دفاتر الشباب الذين كبروا وهم يرددون صوته في ليالٍ طويلة.

سبع سنوات لم تكن كافية ليُنسى، لأن أحمد ليس ظاهرة، بل مدرسة. لم يعد بصفة “الفنان العائد”، بل بمنصب فني ثابت: إمبراطور الفن، اللقب الذي منحه له الجمهور والنقاد قبل أن تمنحه له أي جهة أخرى.

حفلة أمس… استفتاء مفتوح

الذين حضروا أمس لم يأتوا ليستمعوا فقط، بل ليصوتوا. التصويت لم يكن بصناديق ولا أوراق، بل بحرارة التصفيق، وارتفاع الأصوات، والتجاوب لحظة بلحظة. كان الحفل بمثابة “استفتاء” حقيقي على مكانة أحمد، والنتيجة جاءت واضحة:
هو لا يزال في القمة… والجمهور لم يترك مكانه شاغراً.

والأجمل من ذلك أنّ أحمد لم يحتكر الحضور لنفسه. لم يقل إن السنوات السبع تمنحه حق الاستفادة، أو أن العودة فرصة تجارية. بل فعل ما لا يفعله الكثيرون:
خصّص عائد الحفل لدعم الفاشر.

هذا الموقف وحده يكفي ليُقال إن أولاد الصادق — أحمد وحسين — ليسوا فنانين فقط، بل أبناء وطن يعرفون قيمة الوقوف مع الناس في لحظاتهم العصيبة.

عودة تبدأ من مصر… وتمتد للسودان

أن تبدأ العودة من مصر، بلد الفن والثِقَل والمسرح الكبير، فذلك ليس مجرد صدفة. هي إشارة على أن اسم أحمد ما زال قادرًا على العبور، وأن جمهوره خارج السودان لا يقل وفاءً عن جمهوره داخله. ومن مصر، امتد الصدى إلى شوارع أم درمان حيث عرضت الشاشات الضخمة الحفل، لتتحول المدينة إلى مسرح مفتوح، يشارك فيه من لم يتمكن من الحضور.

هذا التواصل يُثبت أن المسافة لم تقطع العلاقة بين الفنان وجمهوره، وأن السنوات لم تخلق فجوة. بل العكس: جعلت اللقاء أكثر حرارة، وأكثر صدقًا.

أحمد وحسين… ثنائية لا تتكرر

حين نقول أولاد الصادق فالأمر ليس مجاملة. إنها مدرسة فنية كاملة. حسين بصوته ورصيده، وأحمد بطريقته ودفئه وملامسه الشعورية التي طالما ميّزته. طوال السنوات الماضية، لم يختلف الناس على حلاوة أصواتهم، ولا على بصمتهم الخاصة في الأغنية السودانية.

وجودهم كان دائمًا علامة توازن في الساحة: حضور بلا ضجيج، وإبداع بلا ادعاء، ومحبة لا تحتاج لتفسير.

عندما يهتف الجمهور: كجونكات… حتى الممات

الهتاف لم يكن مجرد شعار. كان إعلان ولاء، وتجديد بيعة فنية، ورسالة تقول إن مكان أحمد محفوظ، وإن عودته لم تكن مجرد حدث… بل كانت حاجة.

هذا الجيل، والأجيال التي قبله وبعده، تعاملت مع أغنيات أحمد بوصفها جزءًا من الذاكرة العاطفية السودانية. لذلك، حين عاد… عادوا معه، وعادوا إليه.

عودة أحمد الصادق ليست مجرد خبر فني؛ إنها حدث وجداني. ليست عودة صوت، بل عودة زمن، وإحساس، ومرحلة كاملة من تاريخ الأغنية السودانية. ومن يشاهد ما حدث أمس، يدرك أن القادم سيكون أكبر… وأن انتظار الجمهور لم يذهب سدى.
والأهم… أن السودان ينتظر.
بانتظار لحظة يدخل فيها أحمد المسرح هنا، وفي الخلفية يهتف الناس:
كجونكات… حتى الممات.

search